أجوبة الأستاذ على أسئلة قرية النبية صالح ( كتيب صغير ) .
الموضوع : أجوبة الأستاذ على أسئلة قرية النبية صالح ( كتيب صغير ) .
التاريخ : 18/ جمادى الثاني/1424 هـ .
الموافق : 16 / أغسطس / 2003م .
بسمه تعالى
والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
لقد عزمنا بمشيئة الله تعالى على إصدار كتيب صغير يحمل شيء من الثقافة الدينية والاجتماعية والسياسية وغيرها ليكون أحد أساليب التوعية لهذا المجتمع. ونحن نطلب منكم المساعدة لإتمامه ونشره، وطلبنا هو عبارة عن أسئلة نريد منكم الإجابة عليها، ونكون لكم من الشاكرين.
السؤال الأول: هل هناك وجه اتفاق بين سياسة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وأهل البيت عليهم السلام من جهة، وبين علمائنا في هذا العصر من جهة ثانية، بالرغم من اختلاف الظروف ؟
الجواب الأول: يتفق الأنبياء والأوصياء والعلماء الروحانيين في كون سياستهم من أجل مرضات الله سبحانه وتعالى ومصلحة العباد، وقوامها الحق والعدل والخير، وتحقيق السعادة والرخاء والرفاهة والتقدم في المجتمع، وإزالة كل العوائق والقيود والعقبات التي تعيق تطور المجتمع وتقدمه، كل ذلك على ضوء المنهج الرباني العظيم.
قال الله تعالى: ( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) ( ص: 26 ).
وقال الله تعالى: ( إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون ) ( المائدة: 44 ).
النبيون: الأنبياء.
الربانيون: الأوصياء.
الأحبار: العلماء الروحانيين ( علماء الدين ) أو الفقهاء.
وقال الله تعالى: ( الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ) ( الأعراف: 157 ).
إصرهم: جمع إصر، وهو الحمل الثقيل الذي يمنع صاحبه من الحركة.
الأغلال: جمع غل، وهو طوق من حديد أو جلد أو نحوهما، يجعل في عنق الأسير أو المجرم أو في أيديهما. وهي هنا إشارة إلى القيود غير الواقعية التي توضع وتقيد حركة الإنسان وتقدمه في الحياة.
عزروه: عظموه ووقروه.
ويحتاج الأنبياء والأوصياء والعلماء الروحانيين أو الفقهاء إلى عدة أمور في سبيل تنفيذ السياسة الإسلامية على أرض الواقع، منها الأمور التالية:
الأمر الأول: امتلاك الصورة الفكرية الواضحة لأهداف الإسلام وأغراضه، ومعرفة الأدوات والوسائل والأساليب الكفيلة بتحقيقها.
الأمر الثاني: امتلاك الصورة الكاملة اللازمة من الأحكام الشرعية أو القوانين التي تنظم المجتمع.
الأمر الثالث: الرؤية الموضوعية للواقع الذي تتحرك فيه الرسالة.
الأمر الرابع: الكفاءة الروحية والعملية لإدارة الواقع وتحريكه نحو تحقيق أهداف الرسالة وأغراضها على أرض الواقع.
ويتفاوت الأنبياء والأوصياء في امتلاكهم للصورة الكاملة الفكرية والشرعية: إذ فضل الله تعالى بعض النبيين على بعض، و التفاوت في امتلاك الصورة الكاملة: الفكرية والشرعية، هو مما فضل الله تعالى بعض النبيين على بعض فيه. والصورة الفكرية والشرعية الأكمل من الجميع، هي عند الرسل الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، خاتم الأنبياء والرسل، وعند أهل بيته الطيبين الطاهرين، شركاء القرآن وخلفاء الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في حمل الرسالة الكاملة والتبليغ بها إلى كافة الناس بعده، وهم منه وهو منهم – كما نطقت بذلك عشرات الأحاديث في مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت عليهم السلام. إلا أن الصورة عند جميعاً الأنبياء والأوصياء صحيحة ومعصومة، لأنهم يتلقونها مباشرة من عند الله سبحانه وتعالى، وليس عن طريق الاجتهاد.
كما يتفاوت الأنبياء والأوصياء أيضاً: في الرؤية الموضوعية للواقع وإدارته. قال الله تعالى وهو يخاطب الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم: ( فأصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت ) ( القلم: 48 ).
أما العلماء الروحانيين أو فقهاء الإسلام رضوان الله تعالى عليهم: فقد يمتلك بعضهم الصورة الفكرية والشرعية الكاملة، و قد تكون لدى بعضهم أكمل من الصورة التي يمتلكها بعض الأنبياء السابقين، وذلك نظراً لشمولية الإسلام وعالميته – الدين الكامل – إلا أن الصورة الفكرية والشرعية عند الفقهاء اجتهادية غير معصومة، مما يعني احتمال وقوعهم في الخطأ، بل الخطأ يقع لديهم فعلاً بدليل اختلافاتهم الفكرية والفقهية، وهذا لا يقلل من قيمة دورهم العلمي والقيادي، وقد ارتضاه الله جل جلاله لنا في زمن الغيبة، ونحن نتفهمه ونبني عليه حياتنا الدينية كما أرادها الله جل جلاله لنا في زمن الغيبة، ولكنها حقيقة واقعية ينبغي أن لا نغفل عنها، وأن نأخذها بعين الاعتبار في إدارة واقعنا، وفي تقييم أداء العلماء الروحانيين والفقهاء العلمي والعملي.
أما عن الكفاءة الروحية والعملية في إدارة الواقع: فلا يستبعد إمكانية امتلاك بعض العلماء الروحانيين والفقهاء لهذه الكفاءة بصورة أنضج أو أعلى من بعض الأنبياء السابقين أيضا ً- على وجه العموم – في ضوء بعض من فهم حديث: ( علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل ) الموجود في كتب الحديث عند مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت عليهم السلام. إلا أن عمل الأنبياء والأوصياء لا يمكن أن يتعرض للتراجع أو للمراوحة في مكانه، وإنما يتقدم دائما للإمام، نظراً للتسديد والتوجيه الرباني المعصوم المباشر لهم عليهم السلام.
أما إدارة العلماء الروحانيين أو الفقهاء للساحة العلمية أو العملية: فقد تتعرض للتراجع أو للمراوحة في مكانها، وذلك لاحتمال فقدانهم للنظرة الشمولية للواقع أو فقدانهم للكفاءة العملية لإدارة الواقع أو فقدانهم للاثنين معاً.
وهنا تبرز بعض الأدوات لتجنب الوقوع في مثل ذلك، منها: القيادة الجماعية والشورى مع كافة الكفاءات الإسلامية ذات الصلة بالموضوع.
ومن الأمور المهمة لنجاح وتطوير عمل الفقهاء وزيادة كفاءتهم في إدارة الساحة: دراسة السيرة الطاهرة لعمل الأنبياء والأوصياء، دراسة علمية موضوعية كلية شاملة (الموضوعية في مقابل التجزيئية وليس الذاتية، مع أهمية أخذ الموضوعية بالمعنى الثاني بعين الاعتبار ) في سبيل تحقيق الأهداف التالية:
الهدف الأول: التعرف على الأساليب والأدوات والوسائل التي استخدمها الأنبياء والأوصياء عليهم السلام في عملهم في إدارة الساحة، في سبيل تطبيقها والاستفادة منها، مع عدم إغفال اختلاف بيئة العمل ( الزمان والمكان ).
الهدف الثاني: استخلاص القوانين والسنن التي تحكم العمل وتقوده إلى النجاح أو الفشل، والشروط المطلوبة من أجل تحقيق النصر والتقدم في مسيرة العمل الإسلامي والوطني، فيما يمكن أن نسميه ( فقه السيرة ) على غرار ( فقه الأحكام ).
السؤال الثاني: بماذا ترد على من يقول بأن هناك فصل بين الدين والسياسة – كما هو منطق العلمانيين اليوم – وما نجده من عدم قدرة رجال الدين على الجمع بين هاتين الصفتين ؟
الجواب: إن الله جل جلاله لم يخلق الإنسان عبثاً، وإنما خلقه لهدف وغاية صحيحة، وهذا ما يفرضه النظر في الكون والإنسان والحياة، وما تقتضيه حكمة رب العالمين. فليس من الحكمة أن يتكفل الله جل جلاله، بأن يوصل كل شيء في الوجود إلى غايته وكماله – كما نجده في كل صغير وكبير في هذا الكون الفسيح – ثم يترك الإنسان أشرف المخلوقات فلا يتكفل بوضع المنهج الذي يوصله إلى كماله وغاية وجوده في الحياة!!
وهذا يتطلب أن يقود الدين حياة الإنسان بالكامل، ويضع معايير لقبول أو رفض كل صغيرة أو كبيرة في حياة الإنسان، في سبيل سعادته في الدنيا والآخرة، وأن يقيم مجتمع إنساني متحضر على أساس رؤيته ومنهجه في الحياة، ورسم علاقة الإنسان بنفسه وغيره على ضوء علاقته بخالقه وربه.
ومن جهة ثانية: فقد وجدنا بأن الإنسان – بحسب سجيته وفطرته – يتصرف بمسؤولية في الحياة، ويعطي قيمة لتصرفاته، ويحاسب نفسه عليها ويحاسبه الآخرون، ولا يمكن فهم ذلك بعيداً عن التوجه الفطري عند الإنسان في الحياة، والهدفية الكونية في عالم الوجود بأسره.
وكلنا يدرك أيضاً: الصلة بين هذا التصرف المسئول في الحياة وكرامة الإنسان، إذ لا كرامة للإنسان بمعزل عن الحياة المسئولة والتصرف المسئول الهادف.
والنتيجة المهمة التي يجب أن نخلص إليها من وراء ذلك كله: هي أن الحياة الدنيا لا يمكن أن تكون نهاية المطاف في وجود الإنسان، ولا يمكن أن تمثل في نفسها مرجعية ومصدر لتصرفاته المسئولة ولروحه المعنوية. وبالتالي: فإن حياة الإنسان في الدنيا تتصل بحياة ثانية أكمل من هذه الحياة وتتوقف عليها، فكل ما يفعله الإنسان في الحياة الدنيا تظهر آثاره ونتائجه في الآخرة ويتحدد مصيره هناك على أساسه، مما يعني بالضرورة صلة التشريع في الدنيا بالآخرة.
ومن الواضح جداً: عجز الإنسان عن وضع هذا التشريع الذي ينظم حياة الإنسان في الحياة الدنيا ويتصل بالآخرة، وقد ثبت بالتجربة عجز الإنسان عن وضع التشريع العادل المتوازن لنفسه في الحياة الدنيا، فكيف يستطيع أن يضع التشريع المتصل بالآخرة، وما هو مصدر معرفته في هذا الموضوع ؟!
ونحن نعلم بأن القوانين الوضعية لا تشرع للأخلاق والعبادات والأحوال الشخصية، وهي حاجات ماسة للإنسان في الحياة الدنيا والآخرة.
ومن الناحية الخارجية: فقد أكد القرآن الكريم على وجوب الرجوع إلى منهج الله جل جلاله في كل صغيرة وكبيرة في الحياة الدنيا، وسما عدم الرجوع كفراً في آية: وذلك إذا كان عدم الرجوع سببه النكران. وسماه فسوقاً في آية ثانية: وذلك إذا كان عدم الرجوع سببه العصيان مع الاعتراف بوجوب الرجوع. وسماه ظلماً في آية ثالثة: وذلك بالنظر إلى النتائج المترتبة على عدم الرجوع. فهو ظلم للنفس لأنه معصية لله جل جلاله يستحق عليها العبد العقوبة يوم القيامة. وهو ظلم للآخرين، لأن إقامة العدل بين الناس: يتوقف علي الرجوع إلى منهج الله سبحانه وتعالى وحده دون سواه.
وقد جاء الأنبياء بالأحكام التفصيلية في جميع جوانب الحياة المختلفة، ولم يغفلوا أي جانب من جوانبها: العبا دية أو السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو الأخلاقية والتربوية..الخ.
كما أثبت الفقهاء قدرتهم التشريعية في كافة الميادين والمجالات على ضوء القرآن والسنة وفق قواعد علم الأصول، ولم يعجزوا عن الإتيان بالتشريعات الإسلامية في أي مجال من مجالات الحياة المختلفة أو في أي حقل من حقولها.
وقد أقام الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وأكمل المشوار من بعده صلى الله عليه وآله وسلم الخلفاء حتى زمن سقوط الخلافة، ولم يستنكر أحد من المسلمين عليهم ذلك، حيث أنه لا يوجد خلاف بين المسلمين على وجوب إقامة الدولة الإسلامية، وإن اختلفوا حول بعض التفاصيل المتعلقة بها.
وأجمع المسلمون أيضاً: على إمكانية إعادة بناء الدولة الإسلامية بعد سقوطها، وقد جرت محاولات فعلية عدة من مختلف المدارس الفقهية لإعادة بناء الدولة الإسلامية، وقد نجح بعضها بالفعل، وكان أخرها ما قام به الإمام الخميني العظيم، وقد نجح في إقامة الجمهورية الإسلامية في إيران.
أما عن قدرة العلماء في إدارة الشأن السياسي: فقد أثبت بعضهم قدرة فائقة ومتميزة في العمل السياسي على مستوى المعارضة والحكم، وقد جمع الإمام الخميني (رحمة الله تعالى عليه ) الكفاءة في المعارضة والحكم، ولدينا تجربة حزب الله المظفر في لبنان بقيادة السيد حسن نصر الله المؤيد بنصر الله تعالى في التحرير، ولدينا تجارب إسلامية عديدة في المعارضة في أنحاء متفرقة من العالم.
وأما عن قصور الباع لدى بعض العلماء الروحانيين في العمل السياسي: فلا يغير في الحقيقة شيئاً. حيث لا توجد ملازمة بين حق الإسلام في التدخل في الشأن السياسي، وفرض كفاءة كل العلماء الروحانيين في الشأن السياسي.
كمالا يوجد أساس صحيح لقول البعض: بأن العلماء الروحانيين لا خبرة لهم في السياسة.
وقد أثبتت التجربة التاريخية والمعاصرة: بأن العلوم الشرعية من شأنها أن تبصر علماء الشريعة بكافة شؤون الحياة، بما فيها الشأن السياسي، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل عالم روحاني خبير بالسياسة، أو يكون بالضرورة أكثر كفاءة من غيره، فقد يتفوق غير الروحاني على الروحاني في الشأن السياسي وفي غيره من شؤون الحياة ومجالاتها المختلفة.
وقد أضرت تدخلات من لا خبرة له من العلماء الروحانيين بالشأن السياسي فيه وفي غيره من شؤون الحياة المختلفة، وفرض أنفسهم باسم الدين، وكأن العمامة سر المعرفة والكفاءة والتفوق في كل شيء – كما يحاول البعض أن يصوره للناس ويفرضه كواقع على غير أساس صحيح.
لقد أضرت تدخلا ت هؤلاء بالدين والسياسة معاً وبمصالح العباد، لا سيما إذا صاحبت ذلك نزعة دكتاتورية وسعي للتفرد بالقرار وإقصاء الآخرين، تحت أي عنوان أو تحت أي مبرر. والأجدر بالعالم الروحاني أن يكون أكثر من غيره التصاقاً بالتواضع وأن يتوقف عند حدود ما يعلم ولا يتجاوزها ويقول في العلم بغير علم، وأن يعترف للآخرين بما لهم من الفضل ولا يبخس الناس أشياءهم.
إنه لجميل حقاً أن يعرف كل إنسان قدر نفسه، وأن يتواضع ويقف عند حدودها ولا يتجاوزها في شيء، وأن يعترف للآخرين بما لهم من الفضل ولا يبخسهم أشياءهم. والعلماء الروحانيون هم أولى من غيرهم بعمل ذلك، بما لديهم من العلوم الربانية النورانية العظيمة، وبما لديهم من التقوى والخشية والخضوع لله الواحد القهار، وإن هم لم يفعلوا فإنهم يسيئون لأنفسهم ولدينهم ولمصالح العباد.