“المبادرة” والحوار بين المعارضة والحكومة في البحرين

تجربة الحوار بين أحد أطراف المعارضة والحكومة في الفترة من أغسطس 1995 إلى يناير 1996

أصحاب المبادرة تحاوروا باسم انتفاضة التسعينات

أغسطس 1995ـ يناير 1996

كتب الدكتور : منصور الجمري ..

انتفاضة التسعينات كانت أحد الأسباب التي أدت إلى حدوث الانفتاح السياسي الذي نعيشه في البحرين في هذه الفترة .. تلك الانتفاضة كانت قد انفجرت في ديسمبر/ كانون الأول 1994.

واستمرت حوادثها حتى نهاية التسعينات من القرن الماضي. الانتفاضة عبّرت عن تحرك جانب من الشارع البحريني لأسباب سياسية واجتماعية واقتصادية، وكانت تتوازى في جانب مع الحركة المطلبية التي قادتها ” لجنة العريضة ” التي طرحت المطالب المتفق عليها من فئات واتجاهات المجتمع البحريني. غير أن الحوادث تطورت وأدت إلى اصطدام الشارع السياسي الشيعي مع قوات الأمن لعدة أسباب، ومن بين تلك الأسباب الاستراتيجية التي اتبعتها القيادة الأمنية آنذاك لإحداث شرخ داخل الحركة المطلبية من خلال تركيز القمع على فئة واحدة من المجتمع، وبالتالي يمكن أن ينفصل الشيعة عن السنة، ويسهل التعامل مع الأمور.

تشكلت عدة جهات قيادية ورمزية أثناء التحرك السياسي في التسعينات، ومن تلك الجهات التي تشكلت بعد انفجار الانتفاضة كانت “أصحاب المبادرة “. 

أصحاب المبادرة ..

مباشرة وبعد انفجار الانتفاضة في ديسمبر 1994 ظهرت شخصية الشيح عبد الأمير الجمري بصورة محورية، لأنه كان أكبر رمز ديني شيعي يتبنى «العريضة النخبوية» في العام 1992، ومن ثم ” العريضة الشعبية ” في العام 1994. وبعد ذلك تقدم للصلاة على الشهداء الذين سقطوا أثناء المسيرات التي عمت مناطق عدة في البحرين. وفي 1 أبريل/ نيسان 1995 تمت محاصرة منزل الشيخ الجمري لمدة أسبوعين، ومن ثم نقل إلى سجن القلعة، وبعدها نقل إلى سجن سافرة. بعد إدخال الجمري السجن ازدادت الأوضاع سوءاً، مما أدى بالقيادة الأمنية ممثلة حينها بالمدير العام للأمن العام ( إيان هندرسون ) إلى فتح حوار معه داخل السجن. ولكن الجمري طلب أن يكون معه أيضا اثنان من رموز المعارضة الذين تم اعتقالهم أيضاً، هما: الأستاذ عبدالوهاب حسين، والأستاذ حسن مشيمع. وبعد أن اكتملت الحوارات الأولية تم إشراك عدد من الشخصيات التي كانت داخل المعتقل للمساندة في تنفيذ بنود الاتفاق، وهؤلاء أطلق عليهم لاحقاً ” أصحاب المبادرة ”

المعارضة في لندن تدخل على الخط ..

كنت في لندن مع الناشطين في حركة أحرار البحرين، التي كانت قد تصدرت وكان لها دور رئيسي في تمثيل وجهة نظر المعارضة في الخارج. في منتصف أغسطس 1995 انهالت علينا التقارير من داخل البحرين تتحدث عن إطلاق عدد من الرموز القيادية في التحرك الشعبي المطالب بعودة الحياة الدستورية للبلاد. وما هي إلا فترة وجيزة حتى اتصل الأستاذ حسن مشيمع ـ احد القياديين الذين أفرج عنهم ـ بنا في لندن يعلمنا انه عازم على السفر إلى الخارج لتبادل وجهات النظر حول المحادثات التي بدأت في السجن بين القيادة الأمنية (ممثلة في المدير العام ، السيد ايان هندرسون، ووزير الداخلية) وبين خمسة من قياديي التحرك الشعبي (الشيخ عبد الأمير الجمري ، الأستاذ حسن مشيمع، الأستاذ عبدالوهاب حسين، الشيخ خليل سلطان، والشيخ حسن سلطان . وهكذا دخلت الانتفاضة مرحلة جديدة اتسمت بالأفراح الشعبية ومظاهر الزينة للاحتفال بمئات من المفرج عنهم بعد أن وصلت الأوضاع إلى حالة من الاختناق.

ما هي طبيعة هذه المحادثات وكيف تم التوصل إليها وما كان المرجو منها ؟

وهل كان بالإمكان الوثوق بالجهاز الأمني وبالعائلة الحاكمة؟

وهل سيتم التنازل عن المطالب؟

وهل.. وهل.. وهل؟

مئات من الأسئلة بدأت تنهال من كل جانب وبدا وكأن البحرين تدشن مرحلة حرية التعبير عن الرأي والحوار بين المعارضة والحكومة. الشكوك والظنون كثيرة وكذلك الآلام والآمال. وهكذا بدأنا في لندن نترقب جئ الأستاذ حسن مشيمع والشيخ خليل سلطان إلى لندن للاطلاع على مادار مع القيادة الأمنية .

وصل الوفد إلى لندن يوم 26 أغسطس 1995 ، في ختام أسبوع حافل للمعارضة عقدت خلاله مؤتمرا صحافيا وندوة سياسية وخرجت مظاهرة جماهيرية في شوارع لندن. كان في وداع الوفد في مطار البحرين الدولي فريق امني برئاسة عادل فليفل، لتسهيل سفر الوفد (ذلك لان من يعتقل ويفرج عنه لا يسمح له بالسفر مباشرة). كان الإرهاق باديا على الأستاذ حسن والشيخ خليل ولذا تركناهما ليرتاحا في اليوم الأول من وصولهما لكي نبدأ معهما حوارات مكثفة استمرت أربعة أيام متتالية .

في أول لقاء لي بالأستاذ حسن ، سلمني رسالة كتبها الوالد الشيخ عبد الأمير الجمري في السجن بتاريخ 24/8/1995، أي قبل يومين من سفر الوفد إلى لندن. والرسالة لخصت الحوار الجاري بالقول: “فأنني قد اطلعت على البيان الصحفي الصادر عن حركة أحرار البحرين الإسلامية بتاريخ 21 أغسطس 95م، والذي تـناول فيما تـناول موضوع الاتفاق بيننا وبين الحكومة، والذي جاء فيه التزام الحركة مشكورة بما جاء في الاتفاق، وأنني أرجو منكم جميعا التعاون معنا لإتاحة الفرصة الكافية لإنجاحه، وتجنب كل ما يعيق تنفيذه ويطيل زمن محنة شعبنا، وان تتكرس الجهود في البحث عن أفضل السبل لتعزيز الحوار مع الحكومة التي أعربت عن رغبتها فيه، مؤكدا الحاجة القصوى للتعاون من اجل إخراج البلاد من محنتها بأسلوب حضاري حكيم وراق يتناسب مع تراثنا التاريخي والثقافي وقيم ومبادئ شعبنا المسلم وطبائعه الإنسانية النبيلة، ومؤكدا رفض الإسلام لاستخدام العنف مادام يوجد للحوار سبيل، ومؤكدا أيضا أن عودة الأمن والاستقرار إلى البلاد مع المحافظة على الحقوق والواجبات المتبادلة بين الشعب والحكومة تمثل الأساس الأقوى والأفضل لنمو البلاد وازدهارها وتحقيق آمال وطموحات شعبنا والمحافظة على مكتسباته، وأنني على ثقة بأنكم سوف تهتدون بفضل الله تعالى وتسديده لأفضل السبل السلمية الدستورية الحكيمة التي تمر عبر الحوار لتحقيق ذلك، وعدم تضييع الفرص التاريخية الثمينة لاسيما هذه الفرصة التي تمثل منعطفا خطيرا في تاريح شعبنا، متمنيا لكم التوفيق والتسديد فيما تصبون إليه من الخير لهذا الشعب والوطن”.

عبرت هذه الرسالة عن الأجواء التي يعيشها قادة المعارضة الذين تحاوروا مع وزارة الداخلية. فلقد كانت الأخيرة توصل المنشورات التي نوزعها داخل البلاد ونعبر فيها عن مواقفنا إلى داخل السجن. وكانت حركة أحرار البحرين قد أصدرت بيانا رحبت فيه بمبادرة الحوار مع الحكومة للخروج من الأزمة. لقد حاز قادة المعارضة في السجن على ثقة الجماهير وكان الجميع بانتظار التعرف على التفاصيل وعلى كيفية التفاهم مع الحكومة للخروج من الأزمة السياسية. الحوار بين الأستاذ حسن مشيمع والشيخ خليل سلطان وبين شخصيات المعارضة المتواجدين في لندن تطرق غالى جميع الأمور المنظورة وكان النقاش حادا وصريحا إلى الدرجة التي كان الوفد ـ الضيف ـ يشعر وكأنه خرج من سجون البحرين والمشادات مع المخابرات إلى سجون منازل لندن ومشادات المعارضة. ولكن مثل هذا النقاش كان ضروريا لان المصلحة العامة للأمة تتطلب الابتعاد عن الجانب العاطفي والشخصي كل البعد للتأكد من سلامة الطريق .

وبينما كنا نتحاور مع الوفد القادم إلى لندن، كان وزير الإعلام الجديد، محمد المطوع يصرح لإذاعة لندن أن الإفراج عن المعتقلين ما هو إلا مكرمة أميرية لتوفير الفرصة للمفرج عنهم لكي يعودوا إلى الصراط المستقيم. كانت هذه الكلمات الجارحة قد لعبت دورها لاحقا في عدم عودة احد أفراد الوفد إلى البحرين بعد انتهاء الزيارة. وبالرغم من ذلك شعرنا بضرورة المتابعة لمجريات الأمور بصبر وحذر شديدين مع الإمساك بقدرة التحرك الجماهيري عندما تتراجع الحكومة عن ما تم الاتفاق عليه. أمام هذه المعادلة، كان علينا أن نبتعد عن الجوانب النظرية البحتة ونتعامل مع الواقع وظروفه، وكيفية معالجة السلبيات التي تصاحب مثل هذه التجربة. وكان الأستاذ حسن قد بدأ حواره بالإشارة غالى أن مثل هذا الحوار لم يكن ليحصل لو أن القادة كانوا على انفراد في زنزانات متفرقة. وكانت الخطوة الاولى التي سعوا إليها هي إقناع وزارة الداخلية بسجنهم في مكان مشترك لأجل التداول في جميع القضايا. وفي مقابل هذا الطلب، كانت المخابرات تريد الحصول على ورقة مكتوبة وموقعة من القادة الخمسة يذكرون فيها “اعتذار” لأمير البلاد. ومن اجل هذا الأمر ترك الخمسة في غرفة خاصة ومجهزة بأجهزة التصنت للاستماع لما يتم الاتفاق عليه. وكان القرار الذي اتخذه الخمسة كتابة رسالة تحمل جملة “شرطية” يقول فيها الموقعون عليها أنهم يعتذرون “إذا” كان قد صدر منهم خطأ. وذكر الأستاذ حسن أن كلمة “إذا” وضعت في منتصف الكتابة لكي لا يتم حذفها بعد ذلك عندما تقوم الحكومة بنشرها فيما لو تراجعت عن الحوار. وهكذا كتبت الرسـالة الموجهة إلى أمير البلاد بتاريخ 24 ابريل 1995 (أي بعد ثلاثة أسابيع من اعتقال الشيخ الجمري) متضمنة الجملة الشرطية التالية: “وإزاء الأحداث المؤلمة التي شهدتها البحرين في الأشهر القليلة الماضية نعرب عن أسفنا الشديد لسموكم “إذا” كانت قد تسببت تصرفاتنا والأعمال التي قمنا بها وأدت إلى الاضطرابات في البلاد”. لقد كانت خطـورة الرسـالة واضحة أمام الخمسة ولكنهم فضلوا أن يقدموا على المخاطرة لكي يتمكنوا من الاجتماع مع بعضهـم البعض بصورة مستمرة والخروج بمشروع مشتـرك .

استمر الحوار فيه لإخراجه قرابة الأربعة أشهر داخل السجن مع قيادة الأمن العام التابعة لوزارة الداخلية.

ملخص الحوار في لندن:

أشار الوفد الزائر أن جذور المبادرة بدأت بعد أيام قلائل من الاعتقال، وخرج عدد من الأخوة بصورة مستقلة أثناء اعتقالهم الانفرادي بفكرة لتهدئة الأوضاع مقابل الدخول في حوار مع الحكومة. بعد عدة جلسات من التحقيق المنفرد مع المخابرات بدا واضحا أن هناك رأي مشترك بين عدد من القياديين، ولهذا تم تقديم طلب بالسماح لخمسة منهم بالاشتراك في سجن واحد لكي يخرجوا بمشروع مشترك. ولكن وزارة الداخلية كانت تصر على كتابة رسالة للأمير قبل السماح بذلك. وقال الأستاذ حسن: إلا أن البند الرابع حذف بطلب من رئيس الوزراء (حسب ما قاله السيد ايان هندرسون (

البند الأول: هو الدعوة للهدوء والاستقرار مقابل إطلاق سراح جميع الموقوفين ( غير المحكومين ) وتم الاتفاق على أن يطلق سراح ثلاثة من المحاورين مع 150 شخص في 16 أغسطس، ثم يتم الإفراج عن الأستاذ عبدالوهاب حسين مع 150 معتقل آخرين، وفي 30 سبتمبر يتم الإفراج عن الشيخ عبد الأمير الجمري مع 500 ـ 600 موقوف.

البند الثاني: معالجة آثار الأزمة. فقد خلفت آثارا مختلفة، ولكي يتحقق استقرار دائم فلا بد من الإفراج عن الذين حكم عليهم وإرجاع المبعدين ومناقشة عودة البرلمان المنتخب.

البند الثالث: تعزيز العلاقة الطيبة بين الشعب والحكومة. وقد أصروا على كلمة تعزيز بدلا من الكلمة الأصلية “خلق”.

البعد الرابع: (الذي لم يوافق عليه رئيس الوزراء): كان ينص على تصحيح العلاقة بين المعارضة في الخارج والحكومة. ملاحظات ذكرها الوفد  الزائر:

1 – قال رئيس المخابرات السيد ايان هندرسون في إحدى جلسات الحوار ” لقد استطعتم هز الكأس فلا تكسروه.. لقد وصلنا إلى قناعة أن القمع لن يخمد الشارع العام بالصورة التي نحب، كما أن الوجهاء الذين اعتمدنا عليهم لم يستطيعوا حل المشكلة”.

2 – عندما طلبنا توثيق الاتفاق قبل بدء الافراجات تم ترتيب لقاء مع وزير الداخلية بتاريخ 14اغسطس (قبل يومين من الإفراج عن الدفعة الاولى) حضره وزير العمل السيد عبد النبي الشعلة وقضاة المحكمة الجعفرية الشيخ سليمان المدني والشيخ احمد العصفور والشيخ منصور الستري بالإضافة للوجيه الحاج احمد منصور العالي. وقام الشيخ الجمري بقراءة المبادرة المكتوبة أمام الحضور الذين استمعوا لما قيل عن الحوار الدائر.

3 – قال السيد هندرسون أن زيارة لندن وإقناع المعارضة هناك سوف يكون له الأثر الكبير في الإسراع بحلحلة الأوضاع. خصوصا بعد ذهاب العلماء الثلاثة الذين تم إبعادهم في يناير 1995 إلى لندن لأن ذلك قلب الموازين على الحكومة.

4 – تم إخبار وزارة الداخلية أن المحاورين لن يطلبوا من المعارضة ومن الجماهير التوقف وإنما سيطلبون إعطاء فرصة للحوار.

ملاحظات ذكرها أفراد المعارضة في لندن :

1 ـ الحكومة رفضت أن توثق الاتفاق من جانبها كتابيا ورفضت وضع جدولة واضحة للفترة الأمنية من الحوار. كما أن المرحلة السياسية للحوار غامضة بالنسبة للآلية. فالمعارضة طرحت مطالب دستورية تعتمد على الإجماع الوطني وآي آلية للحوار لا بد أن تحتوي على ممثلين من الأطراف المشاركة في العريضة الشعبية ومن الأطراف الأخرى المؤثرة في الساحة .

2 ـ أن الحكومة طلبت كتابة رسالة اعتذار كمقدمة للحوار، وبالرغم أن الرسالة كتبت بلغة “شرطية” فان الابتزاز واضح ولن تتوانى وزارة الداخلية عن استخدام هذه الورقة ونكران الحوار لأنها لم تقدم شيئا مكتوبا

3 ـ أن النهج الذي تسير عليه الحكومة لا ينبئ بالخير. فقطاع التعليم تمت عسكرته من خلال تعيين ضباط في الجيش لمناصب الوزير ومدير الجامعة وغيرها من المناصب الحساسة

4 ـ أن تكرار وزير الإعلام الجديد لوصف خروج القياديين بأنه مكرمة أميرية من أجل العودة للصراط القويم أمر آخر لا ينبئ بالخير في التوجه الحكومي

5 ـ الحكومة تريد معالجة عوارض الأزمة وليس جذورها، ولا يبدو أن تغييرا حقيقيا في النهج السياسي قد حصل. فالحديث لا زال عن مجلس الشورى المعين وهناك محاولة لتغيير تركيبة الحكم بحيث يستعصي عودة الحياة الدستورية والبرلمان المنتخب.

رجوع الأستاذ حسن مشيمع إلى البحرين:

رجع الأستاذ حسن إلى البحرين والتقى مع الشيخ عبد الأمير الجمري والأستاذ عبد الوهاب حسين داخل السجن ليخبرهم بنتيجة الحوار مع المعارضة في الخارج. ولكن سرعان ما بدأت الأحداث تأخذ منحى آخر عندما جاء موعد الإفراج عن الأستاذ عبد الوهاب حسين في 7 سبتمبر. فالسلطة لم تفرج عن الأستاذ عبد الوهاب حسين في اليوم المحدد، كما لم تفرج عن العدد الكامل المتفق عليه احتجاجا على مظاهر الفرح الجماهيرية التي بدأت تتسع مع الأيام. وعندما أفرج عن الشيخ الجمري في أواخر سبتمبر، وخرجت الجماهير من كل مكان لاستقباله، انزعجت الحكومة دون سبب معقول وامتنعت عن الإفراج عن باقي الموقوفين المتفق عليهم ويقدر عددهم بـ 500 شخص. وكان شهر أكتوبر حافلا بالمساجلات والاتهامات بين القيادة الأمنية والمعارضة في الوقت الذي بدا واضحا أن الحكومة لم تكن جادة في فتح باب الحوار وأن ما كانت تريده هو الالتفاف على المطالب الجوهرية للتحرك الشعبي، وهو إعادة الحياة الدستورية واحترام حقوق المواطن. وهكذا بدأت الأحداث في التصاعد وبدأت تختفي مظاهر الفرح وتعود حالة اللاأمن واللااستقرار والاعتقالات العشوائية والمحاكمات الجائرة والتصريحات غير المسؤولة، وكانت القشة التي قصمت ظهر البعير خطبة الأمير يوم العيد الوطني في 16ديسمبر 1995 عندما بدا واضحا للجميع أن البحرين مقبلة على مرحلة جديدة من المواجهة بين الحركة الشعبية المتنامية وقوات الأمن. لقد تسارعت الأحداث في يناير 1996 بصورة خاطفة، وبدا الارتباك واضحا في ردود أفعال الحكومة،

ونلخص الأحداث المتسارعة مع ما سبقها كما يلي:

25 سبتمبر 1995: الإفراج عن الشيخ عبد الأمير الجمري.

23 أكتوبر 1995: اعتصام سبعة قياديين وإضرابهم عن الطعام في منزل الشيخ الجمري، احتجاجا على عدم وفاء الحكومة بالاتفاق المبرم معها.

1 نوفمبر 1995: انتهاء الاعتصام واحتشاد اكبر تجمع في تاريخ البحرين (قدر العدد 60 – 70 ألف إنسان) أمام منزل الشيخ الجمري للاستماع للبيان الختامي للمعتصمين.

3 يناير 1996: بعثت قيادة امن المنامة إلى الحاج علي عبدالله الإبريق مسؤول جامع الصادق بالقفول (المنامة) وأنذروه بمنع الشيخ الجمري من الصلاة مساء الجمعة كل أسبوع. وعندما اتصل الإبريق بدائرة الأوقاف الجعفرية قيل له انه ليس من مسؤوليتنا أن نمنع أو نحدد من يصلي جماعة في المسجد. فاتصل العقيد عبد الله المسلم مدير مركز امن القرى بالأوقاف ليأمرهم، لكن دائرة الأوقاف اعتذرت عن ذلك. بعدها اتصل عبد الله المسلم بالشيخ الجمري وقال له: “انك ممنوع من الصلاة والخطبة في مسجد الصادق” وكررها ثلاث مرات. فرد عليه الشيخ الجمري انه يرفض المنع.

4 يناير 1996: هجمت قوات الأمن على جامع الإمام زين العابدين حيث كان الشيخ الجمري مع جمهور من المصلين يقرؤون الدعاء (دعاء كميل ( واستخدمت مسيلات الدموع بكثافة وتم الاعتداء على المارة بصورة عشوائية وفرض حصار حول منزل الشيخ الجمري. بعد فترة انسحبت قرابة عشرين سيارة جيب من المنطقة وبقيت السيارات المدنية وأربع شاحنات مملوءة بالقوات. وبعد فترة تجمعت أعداد غفيرة حول منزل الشيخ الجمري وخرج الشيخ وخطب فيهم قائلا: “إن هذه الحركة الصبيانية المراهقة قد فعلها هؤلاء بدون سبب. وارى أنهم قد أرهقتهم وحدة الشعب وإصراره على مطالبه، وأرهقتهم الجماهير الهائلة التي تجتمع لصلاة يوم الجمعة في جامع الصادق ولا نستغرب مثل هذه الحركة، ونحن صامدون لن نتراجع،والذي أراه أن هذا الانسحاب تكتيكي لكي تتجمعوا بسبب هذه المكيدة ثم يأتوا مرة أخرى للهجوم زاعمين أن هناك فوضى وتجمعا غير مشروع، إننا سوف نظل متمسكين بسلوكنا الذي هزمهم وجعلنا نستـقطب الرأي العـام في الداخل والخارج وهو السلوك السلمي،وارى أن نفوت عليهم الفرصة ونحبط هذه المكيدة بالتفرق والانصراف من هذا المكان، شكر الله مساعيكم، على أن الانصراف لا يعني التخـلي عـن المسـؤولية، بل هـو انصراف مع التحسـب للطوارئ. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”.

الجمعة 5 يناير 1996: صلى الشيخ الجمري الظهر في جامع الصادق بالدراز، بينما كانت مداخل الدراز تتواجد فيها القوات ولكن الجماهير انهالت من كل حدب وصوب. أما صلاة المغرب فيصليها الشيخ في جامع الصادق بالقفول. وعندما توجه الناس إلى القفول كانت القوات قد حاصرت الجامع منذ الثالثة بعد الظهر بـ 250 مسلح وأغلقت جميع الطرق إلى الجامع. وقامت هذه القوات باستخدام مسيلات الدموع والرصاص المطاطي وأصبحت الأجواء مكفهرة، وأصيب عدد غير قليل من النساء والرجال والأطفال. وقد شاهد هذا الحادث السواح الأجانب الذين كانوا متواجدين في الحديقة المائية القريبة من الجامع.

مساء الجمعة 5 يناير 1996: أقيم حفل ديني في منطقة النعيم بالمنامة وكان من بين الحضور الشيخ الجمري. وبينما كان الأستاذ حسن مشيمع يلقي كلمته أمام الحضور هجمت قوات الشغب بالقنابل الخانقة على الحضور. فانفض الجمهور وسقط عدد كبير على الأرض من بينهم الشيخ الجمري، فحمله الشباب إلى بيت صغير ملاصق لمكان الاجتماع. وقد التجأ إلى هذا المنزل حوالي مائة شخص، وبقوا هناك ما لا يقل عن ساعة ونصف لا يستطيعون النزول ويتكلمون بالهمس، لان البيت مطوق والمنطقة كذلك. بعد ذلك هجمت قوات الشغب على المنزل وكسروا أبوابه ودخلوا واقتادوا الشباب بصورة وحشية ضربا ورفسا وشتما. وقيدوا أيدي الشباب من الخلف. وتعرض الشيخ الجمري لضربة على ظهره من احد أفراد قوات الشغب، بعدها واجه الشيخ الجمري الشخص الذي قام بالهجوم واسمه الملازم عيسى القطان، وحمله مسؤولية ما حدث. ثم طالب بالإفراج عن الشباب الذين قيدوا، وتم ذلك بعد فترة من النقاش الحاد. وقام الشيخ الجمري والشباب بتفقد الجرحى الذين سقطوا على الأرض ونقل بعضهم إلى المستشفى.

8 يناير 1996: الشيخ الجمري يصلي في جامع الصادق رغم التهديد له قبل الصلاة والجماهير تجتمع من كل مكان وتجدد العهد. بعد ذلك توجه الشيخ الجمري للدراز وحضر احتفالا جماهيريا ضخما رددت فيه هتافات الصمود ضد الهجمة الحكومية.

12 يناير 1996: طوقت قوات الأمن جامع الصادق بالقفول، وعندما جاء عدد كبير من الناس واغلبهم من الشباب للصلاة وجدوا شرطة الشغب قد أغلقت المنافذ المؤدية للجامع من الجهات الأربع مما أدى لامتداد طوابير السيارات القادمة من كل جهة لأكثر من كيلو متر واحد. وحدث إرباك في الحركة المرورية وعم التذمر العام من تصرفات قوات الأمن. ثم قامت الأخيرة بملاحقة القادمين للصلاة باستخدام الرصاص المطاطي الذي تسبب في إتلاف عدد من السيارات والممتلكات. كما أطلقت قوات الأمن قنابل غازية ذات لون احمر لخلق حالة من الفزع.

13 يناير 1996: استدعت وزارة الداخلية الشيخ الجمري وسبعة من رفاقه وأدخلوهم واحدا بعد الآخر في مكتب وزارة الداخلية الذي كان يتوسطه أربعة عشر من قوات الأمن. وكان اللقاء بمنتهى الشراسة من جانب وكيل وزارة الداخلية. وطالب قادة المعارضة بحضور محامي الدفاع إلا أن ضباط الداخلية قالوا أن الهدف هو إبلاغ رسالة، إن الحكومة قررت منع الصلاة جماعة وإلقاء الخطب أمام الناس. وكان جواب الشيخ الجمري ورفاقه، أنهم لا يعتبرون بهذا القرار لأنه غير دستوري.

14 يناير 1996: اعتقل الأستاذ عبد الوهاب حسين من منزله الساعة الثالثة بعد الظهر. وكان الأستاذ قد ألقى كلمة أمام حفل جماهيري في عراد مساء 13 يناير شرح فيه ما جرى مع ضباط وزارة الداخلية وموقف قادة المعارضة الرافض لمثل هذه التهديدات .

15 يناير 1996: بدأت حملة اعتقالات واسعة شملت جميع الذين ظهرت أسماؤهم للعلن خلال الأشهر المنصرمة من علماء دين وأساتذة وخطباء ووجهاء ومسؤولي مساجد، من مختلف مناطق البلاد.

16يناير 1996: الشيخ الجمري يلقي كلمة أمام جمهور غفير في مدينة حمد ويتعرض للأحداث الجارية ويدعو لوحدة الشعب ويؤكد المطالب العادلة.

17 يناير 1996: استدعي الشيخ الجمري لمقابلة رئيس اللجنة الأمنية التي أنشأت لقمع الانتفاضة، الشيخ عبد العزيز عطية الله آل خليفة. وكان اللقاء مختلفا عما قبله. إذ قدم الاعتذار لإساءة الخُلق في الاجتماع السابق ( 13 / أبريل ) طالب الشيخ الجمري بالإفراج عن الأستاذ عبد الوهاب حسين وإيقاف الهجوم على المساجد والتجمعات العامة لكيلا ينفلت الوضع الأمني وتعود الاضطرابات. طلب رئيس اللجنة الأمنية بعدم رفع الشعارات السياسية، إلا أن الشيخ قال إن المطالب سلمية ودستورية وليس من شأنها الإضرار بالأمن، بل على العكس. ولكن الاجتماع انتهى دون معرفة الهدف الأساسي من اللقاء بهذا الأسلوب المختلف عن سابقه.

19 يناير 1996: استدعي الشيخ الجمري للقاء رئيس اللجنة الأمنية مرة أخرى، وكان هذا اللقاء عكس اللقاء الذي سبقه مما يعكس تذبذب الحكومة وعدم استقرارها على رأي محدد حول كيفية التعامل مع الأحداث. احتدم الخلاف بين الطرفين بعد أن اتهم رئيس اللجنة الأمنية الشيخ الجمري بالتحريض ضد الحكومة، وطالب بإيقاف النشاطات والتجمعات والصلاة وعدم الإدلاء بأي تصريح لوكالات الأنباء العالمية، إلا أن الشيخ الجمري رفض كل ذلك.

20 يناير 1996: فرض الحصار المنزلي على الشيخ الجمري ابتداء من الساعة الثالثة فجرا. المظاهرات تعم مناطق البحرين وتعود مظاهر الاشتباكات مرة أخرى للساحة. اعتقالات واسعة شملت جميع أعضاء “المبادرة” ومعظم العلماء والخطباء والوجهاء الذين وقفوا بحزم أمام هجوم قوات الشغب على المساجد والتجمعات العامة.

21 يناير 1996: اعتقال الشيخ الجمري من منزله والعودة الكاملة لحالة الانتفاضة التي سبقت الإفراج عن قادة المبادرة في أغسطس وسبتمبر 1995. بل إن الأوضاع ازدادت حدة ودخلت البحرين مرحلة صراع أخرى كان بالإمكان تفاديها لولا خوف السلطة من الحوار مع المعارضة. قبل اعتقاله بساعات قليلة كتب الشيخ الجمري رسالة لي بالفاكس قائلا: “أنا والعائلة نعيش الحصار داخل البيت وقد طوقنا بعشرات الجنود وعدد من السيارات، بل حوصر جيراننا في بيوتهم وهم الذين بجانبنا وخلفنا حتى المغتسل، وشرقا حتى بيت طه جاسم، ويمتد غربا إلى بيت ميرزا آدم، ولم يسمح لأحد منا بالخروج إلا الأطفال إلى المدرسة ويفتشون في خروجهم ودخولهم تفتيشا دقيقا. نحن في حال سئ جدا . . . لا أدري ما سيجري بالنسبة إلينا وللشعب من تطور وتصعيد للعنف . . . هذا وإذاعتهم وتلفزيونهم وصحفهم تتكلم ضدنا وتربط الأحداث (أحداث العنف) التي استدرجوا الناس إليها بنا وبالمساجد وتزعم أننا استغلينا المساجد. الآن يحاولون ناسكات الأمة من خلال اعتقال عدد من العلماء وجميع الشيالين (خطباء المواكب الحسينية) وأعداد كبيرة من الشباب . . . وتعتبر هذه الأصوات قـد أخمـدت، ولم يبـق إلا الأمـل فـي الله والرجـاء منه . . . ولعلمـكم، من جانبنا لا تراجع عن مطالب الشعب ونحن -إنشاء الله- على الدرب سائرون . . . مع السلامة”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى