يأبى الله لنا: قراءة الأستاذ عبدالوهاب حسين لخطبة “الإباء” الحسينيّة
یحلّلُ الأستاذ عبد الوهاب حسين في كتابه “قراءة في بيانات ثورة الإمام الحسين” (للإطلاع على الكتاب كاملاً، اضغط هنا)، أبعاداً من خطبة الإمام الحسين بن علي (ع) إلى أهل الكوفة الذين انضمّوا إلى معسكر يزيد بن معاوية، بعد أن انقلبت المواقفُ ضدّه، رغم رسائل الدّعوة إليه (ع) للحضور إليهم، والوعود التي وُجّهت إليه بالانضمام في صفوفِ ثورته ضدّ الحكم الأموي.
يرصد الأستاذ هذه الخطبة في إطار “ساعة المواجهة”، والتي ظهرَ خلالها وضوحٌ كامل في خطوط المشهد السياسيّ آنذاك، وفي تحديد الخيارات الصعبة والمفصليّة من معركة “الحق والباطل”، وهي المعركة التي رأى الإمام الحسين بن علي بأنها كانت “مصيريّة”، ما تطلّب منه أن يحسم فيها العلاقةَ مع الجمهور العام الذي خذل الثورةَ وقائدها، وأنّ يبيّن الأبعادَ التفصيليّة لموقف الخذلان، إضافة إلى التأكيد على أن هذا الموقف ليس نابعاً من تبدّل معادلات الواقع، ومفاجآت اللحظة السياسية والعسكريّة، وإنما هو مبنيّ على رؤية متأصّلة في “جمهور الخذلان”.
وفيما يلي القراءة التحليليّة التي قدّمها الأستاذ لهذه الأجواء، ومن خلال خطبة الإمام التي سنصطلح عليها بـ“خطبة الإباء”:
المقطع الأول: المواجهة مع جمهور الخذلان
“تَبّاً لَكُم أيّتُها الجماعةُ وتَرَحاً، أَحِينَ اسْتَصْرَختُمُونا والِهينَ فأَصْرَخناكُم مَوْجِفين، سَللتُم عَلينا سَيفاً لنا في أَيْمانِكم، وحَشَشْتُم علينا ناراً قْدَحْناها على عدوِّنا وعدوِّكُم، فأصبحتُم إلْباً لأعدائِكُم على أوليائِكُم، ويَداً عليهم لأعدائِكم، بغيرِ عَدلٍ أفشَوْهُ فيكُم، ولا أمَلٍ أصبحَ لكُم فيهم، إلَّا الحرامَ من الدّنيا أَنَالُوْكُم وخَسِيسَ عَيْشٍ طَمِعْتُم فيهِ، من غيرِ حَدَثٍ كانَ منّا، ولا رأيٍ تَفيَّل لَكُم، فهَلاَّ -لكُمُ الوَيلاتُ- إذْ كَرِهتُمونا، تركْتُمونا، والسيفُ مَشِيْمٌ، والجأشُطامِنٌ، والرأيُ لَمَّا يُستَحْصَفْ، ولكنْ أسرعتُم إليها كَطَيْرَةِ الدَّبَا، وتهافتُّم عليها كتَهافُتِ الفَرَاشِ”.
يتضمّن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة، منها:
- النقطة الأولى: بيّن لهم أنهم مخطئون في خيارهم، وسوف يجرّ لهم هذا الخيار الخسائرَ القادحة، والأحزان العظيمة، ويؤدي بهم إلى الهلاك.
- النقطة الثانية: المقارنة بين موقفه من الاستجابة لهم لنصرتهم على أعدائهم، والاستعداد للتضحية من أجل حريتهم وخلاصهم من عدوهم، وموقفهم بخيانتهم وخذلانهم له أمام عدوّه وعدوهم.
- النقطة الثالثة: أن التغيير في موقفهم بنقض بيعتهم له بالنصرة والوقوف إلى صفّ عدوّه والإصرار على قلته لصالحه، لم يكن لعدل أظهره العدو، ولا لأمل بالخير يرجونه منه.
فكل الدّلائل والتجارب تشير إلى خلاف ذلك، في الوقت الذي لم يتغير فيه موقف الناصر، وهو الإمام الحسين (ع) بالوقوف إلى صفهم ونصرته معدّة لهم على عدوّهم. فالولي على موقفه من النصرة، والعدو على موقفه من الظلم والجور، ومع ذلك تغير الموقف منهم لصالح العدو على الناصر.
- النقطة الرابعة: أن تغيير موقفهم على الوجه المبين أعلاه، يمثل فضيحة دينية وأخلاقية وسياسيّة كبيرة، فهو دليل على الشقاء، وخبث النفس، وخساسة الطبع، وفقدان البصيرة في الدين والدنيا.
ويزيد على ذلك، أن تغير الموقف جاء قبل المواجهة مع العدو، وأنهم لم يكونوا مجبرين على تغير موقفهم، وأن قتالهم لولي الله الأعظم الذي جاء لنصرتهم وتخليصهم من عدوهم؛ ليس هو الخيار الوحيد المتاح أمامهم، وأن عاقبته الخسران في الدنيا والآخرة!
نعم، هذه هي حال أعوان الطواغيب ومناصريهم، دائماً، في كل زمان ومكان، إنهم أعداء أنفسهم والإنسانية.
المقطع الثاني: صدمة جمهور الخذلان بالحقيقة
“فسُحقاً لكُم يا عَبيدَ الأُمَّةِ، وشُذَّاذَ الأحزابِ، ونَبَذَةَ الكِتابِ، ومُحرِّفي الكَلِمِ، ونَفْثَةَ الشيطانِ، وعُصْبَةَ الآثامِ، ومُطفِئي السُّننِ، وقَتَلةَ أولادِ الأنبياءِ، ومُبيدي عِترةِ الأوصياءِ، ومُلحِقي العُهَّارِ بالنَّسَبِ، ومؤذِي المؤمنينَ، وصُرَّاخَ أئمّةِ المستهزئينَ.
أجَلْ -وَاللهِ- غَدْرٌ فيكُم قَديمٌ، وَشَجَتْ عَليهِ أصولُكُم، وتأزَّرَتْ عليه فروعُكم، وثبتَتْ عليهِ قُلوبُكُم، وغَشِيَتْ صدورُكُم، فكنتُم أخبَثَ ثَمَرٍ، شَجىً للناظرِ، وأُكْلَةً للغاصِبِ. ألَا لعنةُ اللهِ على الناكِثينَ، الذينَ ينقضُونَ الأَيْمانَ بعدَ توكيدِهَا، وقد جعلتُمُ اللهَ عَليكُم كَفيلاً، فأنتم -وَاللهِ- هُمْ”.
يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة، منها:
- النقطة الأولى: الكشف عن الحقيقة الفكرية والدينية والروحية والأخلاقية والسياسي التي تتجلى في موقفهم من خلال الأوصاف التي نعتهم بها، فهم: طواغيب الأمة، وشذاذ الأحزاب، ونبذة الكتاب، ونفثة الشيطان، وعصبة الآثام، ومحرفي الكلم، ومطفئي السنن، وقتلة أولاد الأنبياء، ومبيري عنرة الأوصياء، وملحقي العهار بالنسب، ومؤذي المؤمنين، وصراخ أئمة المستهزئين، الذين جعلوا القرآن عضين.
- النقطة الثانية: التأكيد على أن الغدر الذي تجلى بأبشع صورة في تغيير موقفهم؛ ليس بجديد عليهم، فهو قديم ومتأصل ومعروف كأحد طبائعم الدنئية، وأنهم ملعونون عند الله تعالى بسبب نكثهم العهد، ونقضهم الأيمان بعد توكيدها، وأن مصيرهم إلى الخسران في الدنيا والآخرة.
المقطع الثالث: خيار الإباء ورفض الذلة
“ألَا وإنّ الدَعِيَّ ابنَ الدَعِيِّ قدْ رَكَزَ بينَ اثنَتَينِ: بينَ السِّلَّةِ والذِّلَّةِ، وهيهاتَ منّا الذِّلَّةُ، يأبَى اللهُ لَنَا ذلكَ ورَسُولُهُ والمؤمِنونَ، وحُجورٌ طابَتْ وطَهُرتْ، وأُنُوفٌ حَمِيَّةٌ ونُفُوسٌ أبِيَّةٌ مِنْ أنْ نؤْثِرَ طاعَةَ اللِّئامِ على مصارِعِ الكِرَامِ. ألَا وَقَدْ أَعْذَرْتُ وأَنْذَرْتُ، ألَا وإنِّي زاحِفٌ بهذِهِ الأُسرةِ على قلَّةِ العَدَدِ، وكَثرةِ العدُوِّ، وخِذلانِ الناصر“.
يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة، منها:
- النقطة الأولى: أن الطاغية (عبيدالله بن زياد) والجيش الأموي، قد ضيّق على (الإمام الحسين بن علي) الخيارات، وجعله بين خيارين، وهما:
الخيار الأوّل – المواجهة العسكريّة: لأن ابن زياد يرى نفسه وجيشه في موقع القوّة، والإمام الحسين (ع) غير راغبٍ في هذا الخيار، ليس خوفاً من القتل، ولكن رغبةً منه في إعطاء الفرصة لخصومه بالتوبة، لكي لا يدخلوا بسببه النار.
الخيار الثاني – الاستسلام: وهو خيار مرفوض قطعاً بصورة نهائية من الإمام الحسين (ع)، وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول: لأن فيه انتصار للباطل والظلم والطغيان والاستبداد، على حساب الدين والعدل والخير والفضيلة والحرية والسلام.
السبب الثاني: لأن فيه مذلة للمؤمنين، والقبول به مخالف للعقل والدين والأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة، والتربية التي نشأ عليها.
- النقطة الثانية: أنه سوف يختار المواجهة على غير رغبته، وذلك للأسباب التالية:
السبب الأول: لأنه أُجبر عليها من قبل الطاغية (ابن زياد) وجيشه.
السبب الثاني: لأنه يفضّل الموت في عز “مصارع الكرام” على الحياد في ذلّ “طاعة اللئام”.
- النقطة الثالثة: الإشارة إلى أنه معذور في قتالهم بعد كلّ الذي عرضه عليهم من الوعظ والإرشاد والخيارات لنجاتهم من العذاب ولم يسمعوا له، فهم يتحمّلوا بعد ذلك كامل المسؤولية أمام الله تعالى لسوء اختيارهم.