كلمة السيد مرتضى السندي في حفل ميلاد الإمام الحسين (ع) بسجن جو المركزي
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين..
والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين، محمد وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين..
أتقدم بأحر التهاني والتبريكات لمولانا ومقتدانا صاحب العصر والزمان، ولنائبه ولي أمر المسلمين وللمراجع العظام وللامة الاسلامية جمعاء سيما لأحبتي وأعزتي ونور عيني الأحبة الأسرى في سجون الخليفيين، الذين يمثلون بحق أحرار الشعب رغم قيودهم، فالحر هو من يفكر بلا أغلال، ويتكلم بلا أغلال ويختار بلا أغلال وقيود، ويرفض ويقبل من دون تأثيرات الترهيب والترغيب، فإن كان في أمتنا أحرار فأنتم صفوتهم.
أتقدم لكم بالتهنئة والتبريك فردا فردا بميلاد ابطال كربلاء.. إمامنا ومقتدانا، سفينة النجاة، سبط النبي الأكرم (ص)، وسيد شباب أهل الجنة، أبي الضيم ابا عبد الله الحسين (ع)..
وإمامنا ومقتدانا زين العابدين وخير الساجدين الإمام علي بن الحسين بن علي (ع).
وقمر بني هاشم وحامل لواء الإسلام في يوم عاشوراء ودافع الكرب عن وجه إمام زمانه الإمام الحسين أبا الفضل العباس (ع).
إننا نستقي من هذه المناسبة العظيمة ورجالات هذه المناسبة دروسا كبيرة وعظيمة احاول في هذه العجالة أن اغترف من بحر فيوضاتهم دروسا ثلاثة تيمنا بسيرتهم العطرة.
الدرس الأول: الموقف الشرعي
ما تمثل بسيرة الإمام الحسين عليه السلام باعتباره الإمام الشرعي المنصب من قبل الله سبحانه وتعالى، والدور الذي قام به من تببين الحق والحقيقة والموقف الشرعي للأمة حتى وإن كلفته هذه الحقيقة نفسه وأهله وعياله وكل ما يمكن ان يقدمه في سبيل الله.
ان الموقف الشرعي قد يكون بلا كلفة ولا ثمن ويسهل على المتصدي أن يبينه ويبرع في تبيينه وتوضيح الموقف الشرعي، وهذه وإن كانت فضيلة إلا أن الموقف حين يستتبع تضحية وفداء يرتفع قيمة هذا الموقف درجات عالية وكبيرة، وهذا ما تمثل في موقف الامام الحسين عليه السلام في قوله (من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقيقا على الله أن يدخله مدخله).
إن إعلان هذا الموقف للجماهير وللامة يكلف القيادة الشرعية ثمنا باهظا يصل الى حد أن يقتل على بوغاء كربلاء ويجزر هو وعياله واهله وانصاره وان تحرق خيامه وتسبى نساؤه ولكن الإمام كان مستعدا أتم الاستعداد لدفع هذا الباهظ من أجل ان تبقى الحقيقة شمسا ساطعة لا تغيبها غيوم الأهواء وارهاب السلطات تحت مبررات الخوف الشخصي والحفاظ على النفس -وأي نفس أقدس وأهم من نفس ابي عبد الله الحسين (ع).
هنا تتكشف الحقائق وتظهر المعادن، معادن النفوس، ليس من السهل القيام بهذا الموقف ولا نستسهل ذلك ابدا، فقد يكون المرء مستعدا أن يقدم نفسه في سبيل اقامة الحق ومستقيما في هذا الطريق، إلا ان الاذى حين يمتد الى أبناءه وأهله وأصحابه فإنه يتراجع ويضعف، وهذه نقطة ضعف اغلبية القادة والمجاهدين -وهي أن يمتد الاذى من الأذى الشخصي والفردي الى الأذى الذي يصيب متعلقيه- اما الدرس الذي نتعلمه من الامام الحسين أن كل ما اصابه لم يغير من موقفه بل جعله يرجز ويقول:
إلهي ان كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى
إلهي تركت الخلق طرا في هواك.. وايتمت العيال لكي اراك.. فلو قطعتني في الحب اربا.. لما مال الفؤاد الى سواك
حين تكون الرؤية واضحة والقيادة الشرعية مستعدة للتضحية في أعلى درجات التضحية والفداء وتصدح بالموقف الشرعي حتى وإن كلفها الغالي والنفيس فإن النصر حليف هذا القائد حتى لو قطع اربا اربا ورمي في الصحراء وحُمل رأسه ورؤوس اصحابه على الرماح يدورون بهم من واد الى واد، حتى ولو سبي نساءه ولوعت ظهور اطفاله، فإن الحقيقة والحق سينتصر ولو بعد حين..
يقول الإمام الخامنئي (حفظه الله): “بلغ الإمام الحسين (ع) وأصحابه الذين نلطم على صدورنا ونبكي لأجلهم ونحبّهم أكثر من أبنائنا قمة الغربة، وكانت نتيجة ثورته بقاء وحيوية الإسلام الى اليوم.. وواقعة كربلاء اليوم حية وباقية ليس في قطعة من الأرض الصغيرة فقط، وإنّما في مساحة مترامية الأطراف من محيط الحياة البشرية.”
وهذا ما يدفعنا اليوم أن نوطن النفس على البذل والتضحية والثبات على الموقف الصحيح والسليم ولا نتراجع حتى لو كلفنا ذلك السجن والهجرة والبعد عن الأهل الأحبة فإن ذلك كله بعين الله الذي لا تغيب عن عينه اي صغيرة واي كبيرة وهو الذي قال في محكم كتابه :“فَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذَرَّةٍ خيرا يره وَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذَرَّةٍ شَرًّا يره“
ايها الأحبة الأعزاء علينا ألا نستكثر ما نقدمه في سبيل الله، وأن نعيش الشعور بالتقصير الدائم أمام التكليف الشرعي، وكم نحن بحاجة أن نطلب من الله أن يلهمنا الصبر بل قد نصل الى مرحلة نحتاج من الله أن يفرغ علينا الصبر والثبات كما في قوله تعالى في سورة البقرة:
“قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ * وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ“.
الدرس الثاني: القوة للدفاع عن الحق
أما الدرس الثاني والذي نحن بحاجة ماسة اليه والذي نستلهمه من سيرة أبي الفضل العباس عليه السلام وهو أن القوة لازمة وضرورية في الصراع بين الحق والباطل، فالعباس عليه السلام كان السور الحامي لمخيمات الحسين ونساء الحسين، وكان الظل الذي تستظل به زينب عليها السلام وكان نسوة واطفال الحسين يشعرون بالأمن والأمان ما دام ابا الفضل موجودا وظله يتخلل الى الخيام، فالموقف الشرعي والرؤية الثاقبة والحقيقة قد تقتل وتسجن وتبعد وتغيب حين لا تجد قوة تحميها وتدافع عنها، والتاريخ مليء بقصص الانبياء والاولياء والمصلحين والمفكرين الذين قضوا اغلب حياتهم في السجون والمنافي والحصار وانتهت حياتهم بالقتل من اجل طمس شمس الحقيقة، هذه الحقيقة تحتاج إلى قوة تحميها تدافع عنها ، تقاتل من أجل حمايتها وسلامتها ونقاوتها لكي لا تحرف ولا تبدل ولا تزور ولا تغيب فالأخطار التي تحيط بالحق والحقيقة كثيرة ومتنوعة ومتغيرة غير ثابتة ، فقد يحاول الأعداء يوما أن يطمسوا الحقيقة ووأدها، ويسعوا في يوم آخر لحرفها عن أهدافها ومسيرتها، وقد يسعوا في يوم آخر أن يشوهوها وينفروا الناس عنها .
كل ذلك يتطلب قوة لحمايتها، قوة فكرية، وقوة عسكرية، وقوة أمنية، وقوة اقتصادية، وقوة اعلامية، وقوة جماهيرية شعبية تحمي الحق وتدافع عنه، وحين تفقد القوة أو تنقص بعض اركانها فإن الحق يصاب بانتكاسات ويتأخر في الوصول لنتائجه المطلوبة والمرجوة.
وهذا هو الدور الذي كان يمثله أبي الفضل العباس فقد كان القوة التي تحامي عن الحق وتدافع عنه وتوجد الطمأنينة لحملته ودعاته والمنتمين اليه واللاحقين به، ذلك لأن من أحد اهم اساليب الطغاة والمجرمين هي بث الرعب في نفوس الناس من أجل ان لا يتبعوا الحق ولا ينتموا لمنهج الحق ويقوموا باستهداف الحق وقادته وجماهيره من خلال استخدام القوة من أجل قهر الحق واهله، وهذا ما يشير له الله سبحانه وتعالى بقوله:
“وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ” الانفال
الدرس الثالث: الاعلام من اجل تبيين المظلومية وكشف الحقيقة
اما الدرس الثالث الذي ينبغي ان نستلهمه من هذه المناسبة العظيمة هو دور الاعلام في الدفاع عن الحق والحقيقة واستثمار كل الفرص من أجل تبيان مظلومية دعاة الحق وكشف زيف الطغاة وجرائمهم، هذا هو دور الاعلام في فضح الطغاة وكشف وجههم القبيح للأمة من أجل الا تنسى وأن تبقى حانقة على الطغاة والقتلة والمجرمين وعدم القبول بالتعايش معهم، هنا يأتي دور الاعلام في تنويع اساليب التعبئة والتحشيد وتحريك ضمائر الأمة فقد روي عَنِ الإمام جعفر بن محمد الصَّادِقِ (عليه السَّلام):
“أَنَّ زَيْنَ الْعَابِدِينَ بَكَى عَلَى أَبِيهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، صَائِماً نَهَارُهُ ، قَائِماً لَيْلُهُ ، فَإِذَا حَضَرَ الْإِفْطَارُ جَاءَ غُلَامُهُ بِطَعَامِهِ وَ شَرَابِهِ فَيَضَعُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَيَقُولُ: كُلْ يَا مَوْلَايَ. فَيَقُولُ: قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه واله) جَائِعاً، قُتِلَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ عَطْشَاناً، فَلَا يَزَالُ يُكَرِّرُ ذَلِكَ ويَبْكِي حَتَّى يُبَلَّ طَعَامُهُ بِدُمُوعِهِ، ويُمْزَجَ شَرَابُهُ بِدُمُوعِهِ، فَلَمْ يَزَلْ كَذَلِكَ حَتَّى لَحِقَ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ “.
وما روي من سيرته عندما رأى الإمام ذات يوم قصّاباً يهمّ بذبح كبش له، فاقترب الإمام من القصّاب وسأله: يا هذا هل سقيت الكبش ماءً قبل أن تذبحه؟ فأجابه القصّاب: نعم، نحن معاشر القصّابين لا نذبح الحيوان حتّى نسقيه ماءً. وهنا بكى الإمام وأخذ ينتحب ويندب أباه الإمام الحسين (عليه السلام)، وأخذ يعرّف بمصيبته؛ إذ قتل عطشاناً.
هكذا استطاع الإمام السجاد أن يحرك الناس ويستنفرهم ويعبئهم ضد القتلة والمجرمين فقد كان يبدع في طرق التعبئة والتحشيد وتهييج النفوس ضد الطغاة والقتلة ويمنع الناس من أن يتعايشوا مع قتلة إمام زمانهم الحسين (ع), أن هدف الطغاة هو ازالة الدعاة من طريقهم لانهم يمثلون العقبة التي تعيق استعباد الناس وتحويلهم الى أدوات في ايديهم ، المصلحون يوقظون الناس من سباتهم ويعرفونهم بحقوقهم ويكشف حقيقة الطغاة ومشاريعهم ، مما يدفع الطغاة دوما لأن يعيشوا في صراع مع المصلحين حول تزوير الحقيقة أو كشف الحقيقة ، حتى يصل بهم الأمر الى الصراع الفيزيائي الذي يؤدي إلى الشهادة أو النصر .
ايها الأحبة إن الصراع بين الحق والباطل ممتد بامتداد الزمن ولم يتوقف هذا الصراع منذ خلق البشرية وسيمتد إلى قيام الساعة، الشيء المهم في هذا الصراع هو أين نقف نحن؟ وما هو دورنا في هذا الصراع؟ اما ان نكون مع الحق وقد يتطلب ذلك تضحية وفداء ولكن العاقبة للمتقين كما وعدنا الله سبحانه وتعالى.
وما دام فينا عرق ينبض، وما دامت الروح ملتصقة بجسدنا، وما دمنا نتنفس الهواء سنكون في صف الانبياء والائمة المعصومين والقيادة الشرعية المتمثلة اليوم في الولي الفقيه السيد القائد الخامنئي حفظه الله، حتى لو اجتمع الكفر كل الكفر فإننا سنبقى الاوفياء لحامل هذه الراية ونحن جنود مجندة لهذا الولي حتى يظهر صاحب الراية الحقيقي ونكون من جنوده وانصاره والمستشهدين بين يديه إن شاء الله تعالى.
هذا هو عهدنا الذي نجدده هذا اليوم مع صاحب الأمر أرواحنا فداه في ذكرى تأسيس السادة العلماء والأساتذة الافاضل لتيار الوفاء الإسلامي كحركة عقائدية جهادية وسياسية على منهج الإمام الخميني العظيم ورسالة “الإسلام يقود الحياة”.
كما يسرنا أيها الأحبة أن ننتهز هذه الفرصة والمناسبة المباركة لنُطلعكم على انتهاء التحضيرات لإطلاق هيئة شؤون الأسرى، والتي سُتعنى إن شاء الله بتبني شؤون وقضايا الاسرى والمفرج عنهم وتهتم بعوائلهم ما استطعنا إلى ذلك من سبيل.
والله ولي التوفيق
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
اخوكم المحب لكم والداعي لكم
السيد مرتضى السندي
الخميس 2 شعبان 1444 هـ الموافق 23 فبراير 2023 م